عارفاً بحقه :
الجزء السابع :
بسم الله الرحمن الرحيم
قلنا أن من جملة أسس المعرفة بحق الإمام عليه السلام هو معرفة شهادته و تبين أن للشهادة معنيين أو مصداقين الأول القتل في سبيل الله تعالى و الثاني كون الإمام عليه السلام شاهداً على أعمال العباد ، و هذا الثاني له جهتان الأولى الشمولية الأفرادية فهو عليه السلام شاهد أعمال جميع العباد و لا تختص شهادته بفرد دون آخر و لا بعمل دون عمل بل يتلقون جميع أعمال جميع العباد ليلقوها و يشهدوا بها يوم القيامة أمام الله تعالى .. و الثانية استلزام الشهود و تلقّي الأعمال معرفة ظاهرها و باطنها ، مُلکها و ملكوتها ، و توضيح ذلك :
إن الأعمال الإختيارية التكليفية العبادية لها ظاهر و باطن و ملك و ملكوت – و للمُلك و الملكوت معنى آخر و هو جسم العمل و حقيقته التي تتجسم يوم القيامة و هذا أيضاً مشهود لهم عليهم السلام في الدنيا قبل القيامة و لكنه ليس محط بحثنا حالياً و إن أمكن إدراجه فيه و لكن الغور فيه يؤدي إلى الخروج عن طور الكلام في هذا المختصر فيتطلب التفصيل و بيان معنى الملك و الملكوت بنحو أدق و السبب في الاختلاف المشهود بين ملك العمل و ملكوته و كذا ملك العامل و ملكوته ، و العلة في ظهور ملكوت العمل يوم القيامة بتجسمه و ملكوت العامل بظهور حقيقته و … –
فظاهر العمل هو ما نقوم به من الأعمال العبادية كالصلاة و الصوم و الحج و .. – و لا يختص ذلك بالأعمال العبادية و لكن الأثر الذي نريد بيانه يظهر في العباديات – و باطنه هو حضور القلب و الخضوع و الخشوع و النية و الاخلاص فيها و .. فنقول أن شاهد الأعمال كما يلزم أن يشاهد ظاهر العمل في مرحلة التلقّي ليشهد به في مرحلة الإلقاء ، يجب أن يعلم باطنه أيضاً ليعلم أن هذا العمل صدر منه بخشوع الجوانح و خضوع الجوارح أم لا ؟ هل نوى العمل أم لا ؟ و هل أخلص في نيته لله تعالى أم كان عمله رياءً و سمعةً ؟ و .. و ذلك أنه لولم يعلم بذلك و إنما علم بظاهر العمل فإنه سيشهد بأن هذا العبد المكلف قد صلى صلاة صحيحة و بإخلاص مثلاً في حين أنه كان مرائياً و كانت صلاته باطلة و هذا يعني أنه لا يعلم بالعمل و حقيقته فلم يَتَلَقَّ العمل حتى يُلْقیه و يشهد به يوم القيامة و إذا شهد فسيشهد بخلاف الواقع و لا يمكن أن يكون هذا الإنسان شاهد الأعمال من قِبَل الله تعالى ، و هذا الأمر صادق في العقائد أيضاً فشاهد الأعمال يلزم أن يعلم بعقيدة المكلف أيضاً ليشهد بها ، و العقيدة في القلب فيلزم أن يعرف ما عقد المكلف قلبه به و عليه … و هذا نظير الحَفَظة و كتبة الأعمال من الملائكة الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن الكريم بقوله جل و علا : ” و إن عليكم لحافظين كراماً كاتبين ، يعلمون ما تفعلون ” سورة الإنفطار : ١٠ – ١٢ ، فلولا علمهم بالباطن و النيات و العقائد لما كان اطلاعهم على جسم العمل و ظاهره علماً به و بحقيقته و لحفظوا من العباد ما لم يفعلوه و قد أخبر الله تعالى بعلمهم بأفعالهم فيلزم أن يعلموا بالباطن كالظاهر ..
قد يقال أن ذلك ثابت للملائكة الحفظة الكرام الكاتبين ، فمن أين أثبتم ذلك للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم و أهل بيته عليهم السلام ؟ فنقول في الجواب : إذا سلمنا أنهم عليهم السلام من شهداء الأعمال لزم أن نسلّم و نقبل بأنهم عالمون بالأعمال ظاهرها و باطنها ، جسمها و روحها و .. و إلا لما كانوا شهداء الأعمال و قد افترضنا أنهم شهداء الأعمال و أن ترتب تلك الآثار العظيمة للزيارة متوقف على المعرفة بهذا المقام أيضاً ، بل يستفاد ذلك من القرآن الكريم أيضاً فقد قال تعالى : ” وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ” و قد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير هذه الآية أنه قال : ” نحن الأمة الوسطى و نحن شهداء الله على خلقه و حجته في أرضه ” أصول الكافي ج ١ ص ١٩٠ باب في أن الأئمة شهداء الله عز و جل على خلقه الحديث ٢ ، و راجع سائر أحاديث الباب .. فإذا كانوا شهداء الأعمال لزم أن يكونوا عالمين بباطن الأعمال و النيات أيضاً ليصدق أنهم شهداء الأعمال كما سبق ..
هذا مضافاً إلى أن الإنسان الكامل أعلى درجة من الملائكة و له من السعة الوجودية ما ليس للملائكة ، و من جملة عناصر الكمال هو العلم و هو موجب للسعة الوجودية التي توجب الإحاطة العلمية بقدر تلك السعة الوجودية – و طبعاً لبيان كون العلم من عناصر الكمال و أنه يوجب سعة وجودية في العلم مضافاً إلى سعة الرؤية الكونية نحتاج إلى بحث مستقل – ، و من المعلوم أن من أصدق مصاديق الإنسان الكامل الذي قد أُمِرَت الملائكة بالسجود له أو لله لأجله ، هو النبي الأكرم و أهل بيته المعصومون صلوات الله عليهم أجمعين فهم العلة الغائية في خلق عالم الإمكان و لولا هم لما خلق الله ملكاً و لا فلكاً و لا سماء و لا … كما يستفاد من الروايات بل و من إشارات بعض الآيات ، فإذا كانوا من أصدق مصاديق الإنسان الكامل و كان الإنسان الكامل أعلى درجة من الملائكة و كان لهم من السعة الوجودية ما ليس للملائكة لزم أن يكونوا علماء بكل ما يعلم به الملائكة بنحو أتم و أكمل مضافاً إلى علوم يختصون بها من بين جميع الخلائق – و طبعاً كل ذلك بتعليم من الله تعالى لا بالذات و الإستقلال مضافاً أن علمهم هذا لا يُقارَن بعلم الله اللامحدود … – و من جملة ذلك العلم بأعمال العباد ظاهرها و باطنها ، بل لا يُتصوَّر أن تكون الملائكة متصفة بكمال إلا و هم متصفون به بنحو أكمل و أتم فإذا كان في الملائكة من هم شهداء الأعمال لزم أن يكون أهل بيت النبوة عليهم صلوات الله الملك المنان أيضاً شهداء الأعمال في درجة أعلى … بل قد ورد أن الملائكة سبحوا بتسبيحهم و هللوا بتهليلهم و كبروا بتكبيرهم عليهم السلام و .. و هذا ما نقله الشيعة و السنة فقد نقل القندوزي الحنفي في ينابيع المودة ج ٣ ص ٣٧٨ الباب الثالث و التسعون : .. حدثنا عبد السلام بن صالح الهروي ، عن علي بن موسى الرضا ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن علي بن أبي طالب (سلام الله عليهم) قال : قال رسول الله (ص) : ما خلق الله خلقا أفضل مني ، ولا أكرم عليه مني . قال علي : فقلت : يا رسول الله فأنت أفضل أم جبرائيل؟ فقال : يا علي إن الله – تبارك وتعالى – أفضل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقربين ، و فضلني على جميع النبيين و المرسلين ، و الفضل بعدي لك يا علي ، و للأئمة من ولدك من بعدك ، فان الملائكة من خدامنا وخدام محبينا . يا علي ( الذين يحملون العرش و من حوله يسبحون بحمد ربهم و يؤمنون به و يستغفرون للذين آمنوا ) بولايتنا . يا علي لولا نحن ما خلق الله آدم و لا حواء و لا الجنة و لا النار و لا السماء و لا الأرض ، فكيف لا نكون أفضل من الملائكة و قد سبقناهم إلى معرفة ربنا و تسبيحه و تهليله و تقديسه ؟، لان أول ما خلق الله (عز وجل) أرواحنا فأنطقنا بتوحيده و تحميده ، ثم خلق الملائكة فلما شاهدوا أرواحنا نورا واحدا استعظموا أمرنا ، فسبحنا لتعلم الملائكة أنا خلق مخلوقون و إنه تعالى منزه عن صفاتنا ، فسبحت الملائكة بتسبيحنا ، و نزهته عن صفاتنا ، فلما شاهدوا عظم شأننا هللنا لتعلم الملائكة أن لا إله إلا الله ، و أنا عبيد و لسنا بآلهة يجب أن تعبد معه أو دونه ، فقالوا : لا إله إلا الله . فلما شاهدوا كبر محلنا كبّرنا لتعلم الملائكة أن الله أكبر فلا ينال مخلوقه عظم المحل إلا به . فلما شاهدوا ما جعله الله لنا من العز و القوة قلنا : لا حول و لا قوة إلا بالله لتعلم الملائكة أن لا حول و لا قوة إلا بالله . فلما شاهدوا ما أنعم الله به علينا و أوجبه لنا من فرض طاعة الخلق إيانا قلنا : الحمد لله ، لتعلم الملائكة أن الحمد لله على نعمته ، فقالت الملائكة : الحمد لله . فبنا اهتدوا إلى معرفه توحيد الله وتسبيحه وتهليله وتكبيره .. ” و يستفاد من هذا الحديث الذي رواه إخواننا أهل السنة – و مضمونه منقول من طرقنا أيضاً بألسنة مختلفة – أمور كثيرة فيما يتعلق بمعرفة النبي و أهل البيت عليهم السلام ، و فيما يتعلق بموضوعنا نستفيد جلاله شأنهم و تقدمهم على الملائكة في العلم و المعرفة و بذلك يثبت ما أشرنا إليه من أنه لا يمكن أن يعلم الملائكة بباطن الأعمال و لا يعلمه أهل البيت عليهم السلام و إلا لزم كون الملائكة أعلى درجة منهم عليهم السلام و قد افترضنا أنهم عليهم السلام أعلى درجة من الملائكة ، و كذا بالنسبة لشهادة الأعمال ..
فإذا عرفنا ذلك و آمنّا بهذا المقام للأئمة عليهم السلام – و الذي هو أحد أسس المعرفة بحقهم عليهم السلام – كنا ممن عرفنا حقهم و كانت زيارتنا لهم عليهم السلام قرينة بمعرفة حقهم و ترتبت عليها تلك الآثار و البركات و المثوبات العظيمة المشار إليها في الروايات التي سردناها ، و إلا – إن لم نعرف هذا المقام و لم نؤمن بحقهم هذا – كانت زيارتنا جسمانية و نكون في زيارتنا قد حضرنا بأجسامنا عند أضرحتهم عليهم السلام و لا بأس بذلك و قد تترتب عليها بركات محدودة أيضاً إلا أن تلك البركات و الآثار المعنوية العظيمة و المثوبات الموعودة في تلك الروايات لا تترتب على مثل هذه الزيارة الجسمانية لأنها – أي الروايات – قد قيدتها بمعرفة حقهم عليهم السلام و جعلت معرفة كونهم شهداء من أسس تلك المعرفة ..
و سيأتي البحث حول الأسس الأخرى لمعرفة حقهم صلوات الله عليهم في الجزء التالي إن شاء الله ..