عارفاً بحقه :

       الجزء التاسع :

           بسم الله الرحمن الرحيم

الطاعة : 

تبين في الجزء السابق أن الإمامة تقتضي و تستلزم أن يكون الإمام واجداً لكثير من الكمالات الوجودية و الفضائل الأخلاقية ،  و وجود تلك الكمالات و الفضائل تستلزم لزوم و وجوب طاعة الإمام ، و بيان ذلك : 

الطاعة حق المَلِك و المالك الحقيقي الذي خلق جميع من سواه و هو الله جل و علا ،  إلا أن طاعة غيره تعالى قد تجب على العباد إما لكونها موجبة للنجاة من الشقاء و نيل السعادة فتجب عقلاً و شرعاً ، و إما لأمر الله تعالى – صاحب حق الطاعة المطلقة الحقيقي – بها و جعلها حقاً لأحد عباده تعالى فتكون الطاعة حكماً إلهياً و حقاً لذلك العبد الصالح و لكنه في طول كونها حق الله تعالى و ليس في عرضه و مستقلاً عن حق الله تعالى .. 

فمن الجهة الأولى : غير خافٍ أن الله تعالى قد منحنا نعمة العقل كي نتمكن من معرفة ما يسعدنا و ما يشقينا و نسلك صراط السعادة و الكمال و نتجنب سبل الشقاء و الضلال ،  و من المعلوم أن العقل يحكم بضرورة مراجعة الجاهل إلى العالم الخبير و اتباعه حتى و لو احتمل خطأه ،  فالعقل عندما يرى أن نسبة خطأ العالم أقل بكثير من غيره يحكم بلزوم قبول قوله و العمل به و عدم الإعتناء باحتمال الخطأ ، و العقلاء يعملون بهذه القاعدة و لهذا يرجعون في كل شيء إلى الخبير فيه فالمريض يرجع إلى الطبيب و يأخذ بقوله و يسلم له الأمر و يطيعه فيما يأمره و إن كان احتمال الخطأ في تشخيص الطبيب للداء أو دواء ذلك الداء وارداً و غير منتفٍ ..  فإذا كان الأخذ بكلام الخبير كالطبيب الذي لا ينتفي احتمال خطئه ، أمراً عقلائياً بل مما يحكم به العقل أيضاً فبطريق أولى و بشكل قاطع يحكم العقل – كما يلتزم العقلاء نظرياً على أقل تقدير – بضرورة طاعة الإمام الذي قلنا بأنه متخلق بجميع الفضائل و متصف بجميع الكمالات التي يمكن لأحد من الخلق أن يتصف بها و من جملتها العصمة العلمية و العملية التي تحفظه عن الخطأ و السهو و النسيان و العصيان في أمر المعاش و المعاد ، فالعقل يحكم على الإنسان بأنك إذا أردت السعادة و الفلاح و نيل الكمال فاتبع و أطع المعصوم لأنه يُريك طريق السعادة و الكمال  من دون خطأ و سهو و نسيان و بلا خديعة لأنه مصون عن العصيان ، كما أن الشرع أيضاً يُمضي هذه السيرة العقلائية و يؤيد حكم العقل ، و سيتببن في الجهة الثانية أنه لا يكتفي بالإمضاء بل يأمر بذلك و يجعل الطاعة حكماً شرعياً و حقاً إلهياً للمعصومين عليهم السلام  و لكن ما نريد قوله في هذه الجهة هو أن هذا حكم عقلي و سيرة العقلاء جارية عليه و الشرع لا يعارض ذلك بل يمضيه ..  

و أما الجهة الثانية فنقول : إن الشرع يأمر بطاعة الخبير  – فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون – و يبشر من يستمع الأقوال فيتبع أحسنها – فبشر عباد ، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله و أولئك هم أولوا الألباب – ،  و اللطيف أن الآية أيضاً تشير إلى كون استماع الأقوال و اتباع أحسنها حكم عقلي و عمل عقلائي حيث أنه تعالى بعد ما بشرهم أخبر بأن هؤلاء قد هداهم الله كما أخبر بأنهم أولوا الألباب و أصحاب العقول ..  

 

و إذا كان الشرع المقدس يأمر بطاعة الخبراء و العلماء و باستماع الأقوال و اتباع أحسنها فبطريق أولى يأمر بطاعة من هو معصوم علماً و عملاً لا سيما في مسائل الدين و معارفه التي تشتمل على عناصر الكمال و السعادة في الدنيا و البرزخ و الآخرة – و نعلم أن البرزخ و القيامة عالمان غيبيان لا يعلم أحد بما فيهما و لا يعرف النُظُم السائدة هناك و عناصر السعادة و الشقاء فيهما ما لم يكن هناك معصوم يخبرنا بذلك و يطلعنا على نظام ذينك العالمين و يعرّفنا عناصر السعادة و الشقاء فيهما فيربينا بأخلاق الله جل جلاله …  – فالأولوية القطعية تقضي بأن يكون الشارع المقدس قد أمر باتباع كلام المعصوم و طاعته عليه السلام ، و لكن لا ينحصر الدليل بهذه الألوية بل قد صرح القرآن الكريم  – مضافاً إلى السنة المباركة المحمدية صلى الله عليه وآله وسلم – بوجوب طاعة أولي الأمر المعصومين عليهم السلام ،  حيث أشار الله تعالى في بعض آيات كتابه الكريم إلى الأولياء و حددهم ثم أمر في آيات أخرى بوجوب طاعتهم ،  فقال عز من قائل في بيان من هم الأولياء : ” إنما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون ” – و قد ثبت في محله أن المقصود من قوله تعالى : ” الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون ” هو أمير المؤمنين عليه السلام ،  و استعمال صيغة الجمع لأجل أن الآية تعم سائر المعصومين عليهم السلام لوجود ملاك الطاعة فيهم مضافاً إلى كون أمير المؤمنين عليه السلام لوحده أمة كما كان إبراهيم عليه السلام أمة ، فلا مشكلة في إطلاق صيغة الجمع عليه ،  و بيان ذلك و تفصيله موكول إلى محله  – و إذا عرفنا الأولياء وجب علينا طاعتهم حيث أمرنا الله تعالى بذلك فقال عز من قائل : ” يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم ” فطاعة الله حق له جل و علا و وجوبها حكم عقلي و القرآن يرشدنا إلى هذا الحكم العقلي – و قد ثبت في محله أن هذا الأمر إرشادي يرشدنا إلى حكم العقل و ليس مولوياً ،  و يُطلب توضيحه من علم الأصول – و يأمرنا بطاعة الرسول و أولي الأمر عليهم السلام ( و هذه الآية بنفسها تدلنا على عصمة أولي الأمر بتقريبين لسنا بصدد بيانهما في هذا المختصر ، فتدل بالنتيجة على انحصارهم في أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعدم وجود دعوى العصمة لغيرهم عليهم السلام ، مضافاً آية الولاية التي أشرنا إليها ) .. 

إلى هنا تبين لنا أن معرفة حق أمير المؤمنين و أبنائه الطاهرين عليهم السلام تعني معرفة إمامتهم الربانية و أن الإمامة تقتضي الطاعة و قد روي عن الإمام الحسين عليه السلام أنه قال : ” يا أيها الناس إن الله – و الله – ما خلق العباد إلا ليعرفوه فإذا عرفوه عبدوه ،  فإذا عبدوه استغنوا عن عبادة من سواه ،  فقال رجل : بأبي أنت و أمي يا بن رسول الله  ما معرفة الله ؟  قال : معرفة أهل كل زمان إمامهم الذي يجب عليهم طاعته ” بحار الأنوار ج ٢٣ ص ٩٣ ب وجوب معرفة الإمام الحديث ٤٠ ،  فمن جهة ربط عليه السلام معرفة الله بمعرفة الإمام و ذلك لأنهم الأسماء الحسنى و آيات الله الكبرى و …  فمعرفته معرفة الله جل و علا ، و من جهة أخرى ربط الإمامة بوجوب الطاعة و وصف الإمام بأنه من تجب طاعته .. هذا و قد ورد في الأدعية فَرْضَ طاعة الأئمة عليهم السلام و أن الله قد عرفنا بذلك منزلتهم : ” اللهم صل على محمد و آله الذين فرضت علينا طاعتهم فعرفتنا بذلك منزلتهم … ” فلا يمكن التفكيك بين الإمامة و وجوب الطاعة لأن الإمامة تستدعي الطاعة من جهة و فرض طاعتهم من قِبَل الله تعالى بيانٌ لمنزلتهم من جهة أخرى ، و إذا علم الزائر ذلك و عرف حق الإمام عليه السلام بالإيمان بإمامته و وجوب طاعته كان مستحقاً لتلك الدرجات العلية و المثوبات العظيمة المذكورة في روايات الزيارة بالمعرفة .. 

إلى هنا تبين لنا أسس معرفة حق الإمام عليه السلام و إذا عرفنا هذه الأسس و آمنا بها لم يصعب علينا قبول ترتب تلك الدرجات و المثوبات العظيمة على الزيارة بمعرفة حق الإمام بل يتبين لنا بمعرفة تلك الأسس أن ترتب تلك الآثار على هذه الزيارة الروحانية أمر طبيعي ،  و لكننا مع ذلك سنتطرق بإذن الله تعالى في الجزء التالي إلى حكمة ترتب هذه البركات و المثوبات على زيارتهم صلوات الله عليهم بهذه المعرفة و هو المحور الرابع و الأخير في هذا المقال ..