*القلب في القرآن*
بسم الرحمن الرحيم ..
سؤال من أحد المؤمنين : سلام عليكم سماحة الشيخ ..
استوقفني قوله تعالى في القرآن الكريم في عدة سور و ايات كثيرة ، أن الله يخاطب القلوب / و ليس العقول ،
السؤال :
١ – هل القلب هو صاحب الفكر و المشاعر .
٢ – أو القلب كناية – مجاز – استعارة .
٣ – او يوجد ربط بين القلب و العقل .
للعلم شيخنا العزيز يقول أحد المؤمنين أن علم الطب يعارض فكرة أن القلب يفكر يدبر سبب في التصرفات ، أرجو منكم الإجابة مع وافر التحية والتقدير ودمتم موفقين .. جمع من المؤمنين يتوجهون بالدعاء لكم ..
_________________________________________
*الجواب :*
و عليكم السلام ورحمة الله و بركاته
ليس المقصود من القلب في القرآن الكريم و الروايات هو القلب الجسماني الذي يضخ الدم إلى الأعضاء و الذي يقال له القلب في العرف و اللغة و كذا عند الأطباء بل المراد من القلب هو روح الإنسان فالقلب هو المتقلب علميا و عقديا و عاطفيا فهو ما يتقلب و يتغير علمه أو يرتقي و يتحول من عقيدة إلى أخرى و تتحول حالته العاطفية فأحياناً يرقّ و أحيانا يغلظ و .. و ليس هذا شيئا سوى الروح، و أما القلب الجسماني فهو من الأعضاء التي يدبرها الروح و لولا الروح لما عمل القلب الجسماني عمله كما لا تتمكن العين و القوة الباصرة من الإبصار و الأذن و القوة السامعة من السمع و الشامة من الشم و الذائقة من التذوق و .. و كذا فيما يتعلق بالقوى التحريكية العمّالة في وجود الإنسان فهي لا تتمكن من فعل شيء و القيام بعمل بتحريك العضلات لولا الروح التي هي حقيقة الإنسان – بل و حقيقةُ كل موجود حي في عالم الطبيعة بروحه لا بجسمه – و لهذا ننسب جميع ما يصدر من القوى الإدراكية و التحريكية إلى أنفسنا فنقول أنا أرى و أسمع و أشم و أتذوّق و أفكّر و أتصور و أتخيّل و أتوهم أو بصيغة الماضي : أنا رأيت و سمعت و شممت و تذوقت و تخيلت و .. ( هذا في القوى الإدراكية ) كما اقول أنا أمشي و أكتب و أضرب و أركل او بصيغة الماضي : انا مشيت و كتبت و ضربت و ركلت و .. ( و هذا في القوى التحريكية المتعلقة بالأعمال الجسدية ) و لا نقول سمعتْ أذني أو رأتْ عيني أو ركلتْ رجلي أو .. بل ننسب جميع ذلك إلى النفس و الروح بكلمة ( أنا ) الذي هو ضمير راجع إلى الإنسان نفسه و حقيقته التي هي روحه و نفسه الناطقة ..
فعندما نقول : إن قلبي لا يرضى بهذا الأمر أو أنني معتقد قلباً أن فلانا عالم أو عادل أو أنني مؤمن بقلبي بأن الله تعالى واحد أحد و .. فالمقصود أن روحي لا ترضى أو تؤمن أو تعتقد أو .. لأن الروح هي حقيقة الإنسان و لولاها لما كان للجسم و قواه أثر و تأثير كما أشرنا ، و الدليل على أن المقصود من القلب في الكتاب و السنة – في أمثال هذه الموارد – هو الروح، هو أن القرآن الكريم ينسب أعمال و صفات الروح الي القلب فمن المعلوم أن الجسم لا يعتقد و لا يؤمن و .. بل الروح هي التي تدرك و تفقه و تفهم و تؤمن و تعتقد فإذا نُسبت هذه الأمور إلى القلب علمنا أنه ليس المقصود من القلب هو القلب الجسماني الصنوبري الذي يضخ الدم إلى سائر الأعضاء و الجوارح بل المقصود هو الروح و السبب في تسمية الروح بالقلب هو أن حياة الجسم متوقفة على حياة القلب فمن الممكن أن تُقطع الأعضاء و يبقى الإنسان حياً بل و من الممكن أن يكون الإنسان ميتا دماغيا و مع ذلك ينبض قلبه و يقولون هو بعدُ حيٌّ، و لكن لا يمكن أن يبقى حياً – و على أقل تقدير أن يبقى حيا لمدة طويلة – مع موت القلب فالقلب الجسماني محور سريان الحياة في سائر أعضاء الجسم فهو أول ما يدخله الروح و الحياة و آخر ما يخرج منه الروح و الحياة و لهذا استُعير القلب للروح، مضافا إلى ما أشرنا إليه من تقلُّب الروح في الحالات و التصديقات و المعتقدات و الاخلاق و العواطف و ..
و لأجل الاختصار أغص الطرف عن بيان و شرح الآيات و الروايات التي يمكن الاستشهاد بها على كون المقصود من القلب هو الروح الإنسانية لا القلب الجسماني و أكتفي بذكر بعض الآيات التي تنسب أفعال الروح إلى القلب – مع إشارات عابرة إلى بيان أصل المطلب – و هي كالتالي :
١ – سورة البقرة الآية ٢٨٣ : ” .. و لا تكتموا الشهادة و من يكتمها فإنه آثم قلبه .. ” و من المعلوم أن القلب الجسماني ليس بآثم بل هو مجرد آلة من آلات الروح لسريان الحياة في سائر الجسم و ضخ الدم إلى الأعضاء فيلزم أن يكون المقصود منه الروح التي هي حقيقة الإنسان التي تريد ما تريد و تأمر القوى الإدراكية و التحريكية بما تريد و ..
٢ – سورة ق الإية ٣٣ : ” من خشي الرحمن بالغيب و جاء بقلب منيب ” و كما أن القلب الجسماني لا يفكر – كما تفضلتم و نسبتم إنكار تفكر القلب إلى الطب – لا يُنيب أيضا فالإنابة فعل جوانحي روحاني و ليس جسمانياً ..
٣ – سورة البقرة الآية ٢٢٥ : ” لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم و لكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم و الله غفور حليم ” فقد نسب الكسب إلى القلب مع أن الكسب عمل للانسان بحقيقته و ليس عملا للقلب الجسماني و لهذا ينسب الكسب في آيات أخرى إلى الإنسان نفسه كقوله تعالى : ” ثم توفى كل نفس ما كسبت ” و قوله جل و علا : ” لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت ” و آيات أخرى ..
و خلاصة القول أن الآيات التي تنسب الشعور و الإدراك و الحب و البغض و التعقل و التفقه و التفكر و الخوف و السكينة و الطمأنينة و .. إلى القلب ناظرةٌ إلى حقيقة الإنسان و ما به يكون الإنسان إنساناً و هو الروح دون الأعضاء الجسمانية التي تفنى و تتحول إلى تراب بمجرد ترك تدبيرها من قِبَل الروح .. موفقين لكل خير و لا تنسوني من دعواتكم الكريمة ..
أيوب الجعفري
ليلة الاثنين ٢٧ من شهر رمضان المبارك ١٤٤٢ ق
الموافق ١٠ / ٥ / ٢٠٢١ م
___________________________________________________
*استفسارات عن موضوع “القلب في القرآن” :*
بعد نشر موضوع “القلب في القرآن” وردتني بعض الاستفسارات حوله و من جملتها الاستفسار التالي من أحد فضلاء المؤمنين أدام الله عزهم :
أحسنتم. ما الفرق بين القلب والنفس في السياق القرآني؟
*الجواب :*
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
*بسم الله الرحمن الرحيم*
القلب و النفس و العقل و الروح أسماء مختلفة لحقيقة الإنسان إلا أن كل واحد منها يُطلق على جانب من جوانب حقيقة الإنسان أو مرتبة من مراتب تلك الحقيقة، و بعبارة أخرى إذا اجتمعت هذه الأسماء دل كل واحد منها على مرتبة من مراتب حقيقة الإنسان و إذا افترقت دلت على حقيقة واحدة ( كالظرف و المجرور إذا اجتمعا افترقا و إذا افترقا اجتمعا – على حد تعبير الأدباء ) ..
فإذا قلنا “عقل الإنسان” فالمقصود حقيقته و إذا قلنا روحه كان المقصود في هذا التعبير أيضا نفس تلك الحقيقة و هكذا في استعمال لفظي القلب و النفس، و لكن إذا اجتمعت هذه الألفاظ و الأسماء و ذُكرت معا في كلام واحد كان كل واحد منها دالا على مرتبة خاصة من حقيقة الإنسان – و طبعا لا ننفي إمكان إرادة المراتب المختلفة فيما إذا افترقت أيضا – ، فالروح – كما أُشِيْرَ إلى إجماله في بعض الأبحاث المعرفية – إشارة إلى البُعد التجردي في وجود و حقيقة الإنسان المتكفل ببث الحياة في الأعضاء و الجوارح و الجوانح بمعنى أن الروح إشارة إلى مصدر الحياة في وجود الإنسان، و مصدر الحياة من مراتب حقيقته التجردية ..
و إذا قلنا “العقل” كان إشارة إلى البعد التعقلي الإدراكي و المحاسب للمصالح و المفاسد والقادر على استنتاج المجهولات بترتيب المعلومات، فالعقل إشارة إلى هذا الجانب من تلك الحقيقة التجردية و بالنتيجة العقل هو الروح و لكن في جانب أو مرتبة الإدراك و المحاسبة و ما يرجع إليهما ..
و إذا أطلقنا “النفس” – من دون قيد النطق فلم نقل النفس الناطقة، نعم إذا أطلقنا النفس – على حقيقة الإنسان كان المقصود تلك المرتبة المتكفلة بشؤون البدن من حقيقته و لهذا يبتلى الإنسان بالتزاحم بين المصالح و المفاسد في هذه المرتبة – فإن البدن من عالم المُلك و الطبيعة الذي يقع في التزاحم – فمن جهة تأتي الأهواء و الرغبات و ننسبها إلى النفس و لا ننسبها إلى الروح أو القلب أو العقل فنقول أهواء النفس و رغباتها و لا نقول هوى القلب أو العقل أو الروح – و إن كان لهذه المراتب أيضا رغبات إلا أنها ليس سلبية متزاحمة في الأعم الأغلب – و من جانب آخر تكون هذه النفس في مرتبة أخرى لوّامة للانسان فيما يرتكبه من قبائح عملية أو خلقية أو .. فالنفس إشارة إلى نفس تلك الحقيقة التجردية للانسان و لكن باعتبار إدارتها لشؤون البدن الذي يأتي فيه التزاحم بين مصالح و مصالح أخرى أو بين مصالح و مفاسد أو ..
و إذا قلنا القلب فهو إشارة إلى نفس تلك الحقيقة التجردية و لكن باعتبار تقلباتها العاطفية و الاعتقادية و المعرفية و .. كما تمت الاشارة إليه في الجواب السابق ..
موفقين مسددين ..
أيوب الجعفري
*استفسار آخر منه دام توفيقه :*
وَ لَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَ الْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ
أنفسكم هنا تأتي في أي سياق؟؟
أو أنفسنا في اية المباهلة
*الجواب :*
نعم ، المقصود في الآية الأولى نفس ما تم ذكره أعلاه فالنفس عند الموت تترك تدبير البدن و لم يقل أخرجوا أرواحكم أو قلوبكم أو عقولكم بل “أنفسكم” و النفس هي تلك المرتبة المتعلقة بتدبير البدن من حقيقة الإنسان التجردية و بالموت تخرج هذه النفس عن حالة تدبير البدن و تتركه فيموت البدن دون تلك الحقيقة التجردية الباقية ..
و أما “أنفسنا” في آية المباهلة فهي إشارة إلى أن أمير المؤمنين عليه السلام بمنزلة نفس النبي صلى الله عليه و آله و هو من يتمكن من أن يحلّ محله في غيابه و بعد رحيله صلوات الله عليه و آله من الدنيا لأنه الواجد لجميع كمالات النبي و المتخلق بجميع اخلاقه و المتصف بجميع فضائله صلوات الله عليهما و آلهما الطيبين الطاهرين ما خلا النبوة لأنها كانت ختمية فلا نبي بعد النبي الخاتم صلى الله عليه و آله، و بعبارة أخرى أكمل و بيان أرقى و أدق : حقيقة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و أمير المؤمنين عليه السلام واحدة و قد تعلقت ببدنين فهما بل هم – أي أهل البيت عليهم السلام – في عالم الملكوت نور واحد و حقيقية متوحدة و عندما يتنزلون و يأتون إلى عالم المُلك و الطبيعة تتكثر الأجسام التي تتعلق به تلك الحقيقة النورية الواحدة كما قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم – و جاء في دعاء الندبة أيضا – “أنا و علي من شجرة واحدة و سائر الناس من شجر شتى” ( و قد ورد هذا الحديث بألفاظ مختلفة من حيث الإجمال و التفصيل في مصادر أهل السنة أيضا ) و كما ورد قولهم صلوات الله عليهم أجمعين : “أولنا محمد و أوسطنا محمد و آخرنا محمد و في بعض الروايات زيادة : و كلنا محمد” و من المعلوم انه ليس المقصود أنهم كلهم مُسَمَّون بهذا الاسم الشريف لأن ذلك مخالف للواقع الخارجي فأسماؤهم صلوات الله عليهم أجمعين مختلفة فيكون المراد أنهم جميعا في مرتبة المسمى بهذا الاسم المبارك صلى الله عليه و آله و سلم و بيان ذلك يتطلب مجالا آخر و قد أشرنا الى جوانب منه في بعض محاضراتنا ..
موفقين لكل خير و لا تنسوني من صالح أدعيتكم الخالصة ..
أيوب الجعفري
ليلة الخميس ٢٥ ج١ ١٤٤٣ ق
٣٠ / ١٢ / ٢٠٢١ م