*استفسار حول دعاء التوسل و تسميته بالدعاء* ..

بسم الله الرحمن الرحيم

وردني استفسار من بعض المؤمنين يقول فيه أن أحد الفضلاء استشكل في تسمية دعاء التوسل بالدعاء حيث أن الدعاء لله وحده كما أن هذا الدعاء ليس من المأثورات عن أهل البيت عليهم السلام بل قد اشتهر أنه من مخترعات الخواجة الطوسي قدس سره الشريف ، و أوضح دليل على ذلك ذكر أسماء أهل البيت عليهم السلام واحدا تلو الآخر .. فطلب مني المستفسر الموقر إبداء الرأي في هذا الكلام فكتبت في جوابه ما يلي :

غير خاف على المؤمنين أن الدعاء مختص بالله تعالى فإنه عبادة كما قال تعالى : ” و قال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ” فسمى الدعاء عبادة ، بل هو من أعظم العبادات فقد سُمّي في الروايات بمخ العبادة – و لهذه التسمية وجوه و اعتبارات متعددة لسنا هنا بصدد بيانها و قد أشرنا إلى جوانب منها في بعض المجالس و المحاضرات – .. و العبادة حق حصري لله جل و علا لأنها تختص بالمالك الحقيقي و المدبر لشؤون الخلق بالذات و الاستقلال و المنعم عليهم بجميع النعم و جميع ما يحتاجون اليه في حياتهم المادية و المعنوية و ما يهتدون به إلى كمالهم و في سبيل الوصول إلى غايتهم التي خُلقوا من أجلها و … و لا يوجد في عالم الوجود من يكون كذلك غير الله تعالى فغيره جل و علا ليس مالكا حقيقيا و لا قادرا على التدبير و الإنعام من تلقاء نفسه و من دون إذن و تمكينٍ من الله تعالى و ..

إذن من الوضوح بمكان أن العبادة – و من أهم مصاديقها الدعاء – حق حصري لله تعالى و لم يأذن الله تعالى بعبادة غيره جل و علا فإنه شرك في العبادة و قد جاء الانبياء للدعوة الى التوحيد في جميع ابعادها و مراتبها و منها التوحيد في العبادة .. إلا أنه يلزم أن نفرّق و نميّز بين الدعاء و التوسل و الدعاء بالتوسل ( كما يلزم التفريق بين مفاهيم الشرك و الشفاعة و العبادة و الاستشفاع و .. ) إذ أن مفاهيم هذه الأمور مختلفة فالدعاء أمر و هو من العبادات التي أُمِرنا أن نخلص فيها لله تعالى و نُهِينا عن إشراك الغير فيها و هو وقوف من هو عين الفقر و الحاجة بين يدي من هو عينُ الغنى و الغنيُّ بالذات و طلب الحاجة منه ( و قد لا يكون الدعاء لطلب حاجة خاصة أو لا يبين و لا يذكر الداعي حاجته أو أنه ليس له حاجة سوى المناجاة مع المحبوب الحقيقي و .. كما تم بيانه في محاضراتنا حول الدعاء .. ) و التوسل أمر آخر فهو اتخاذ وسيلة إلى الله تعالى إما لطلب الحاجة منه أو للتقرب منه جل و علا أو .. و ليس هذا – أي التوسل – مما لم يُنْهَ عنه فحسب بل قد ورد الأمر به و الترغيب فيه في الآيات و الروايات كما لا يخفى عليكم .. و أما الدعاء بالتوسل فهو الطلب من الله تعالى بطريق غير مباشر و له مصاديق متعددة منها الطلب من أولياء الله تعالى بأن يطلبوا حاجتنا من الله جل جلاله أو يسألوه أن يعفو عنا أو أن يقربنا إليه بإزالة الحجب المانعة من التقرب إليه جل جلاله و .. ( و بطبيعة الحال لسنا هنا بصدد بيان جميع مراتب التوسل و إلا لكان للحديث في هذا الموضوع مجال واسع و لتبين أن التوسل لا ينحصر بالطلب منهم عليهم السلام أن يدعوا الله لنا بل قد يكون بطلب إعمال الولاية الإلهية من قبلهم صلوات الله عليهم أجمعين لتحقيق المراد و ذلك بإذنه جل و علا .. و إنما نقصد هنا بيان أصل المسألة بذكر مصداق من مصاديقه ) ..

إذا تبين ذلك نقول بأن دعاء التوسل المعروف هو من قبيل القسم الثالث فهو دعاء و طلب من الله تعالى بالتوجه الى أوليائه و التوسل بهم إليه جل و علا حيث نقول من بداية الدعاء : ” اللهم إني أتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة صلى الله عليه و آله ” فنتوجه الى الله تعالى بمخاطبته مباشرة ثم نلتفت إلى من نتوسل به إلى الله تعالى و نخاطبه بأن يشفع لنا عند الله ( و الالتفات من الصنائع البلاغية المستعملة في القرآن بكثرة و كذا في بعض الأدعية و الزيارات المأثورة و كلام فصحاء العرب .. ) فنقول مخاطِبين له صلى الله عليه و آله و سلم : ” يا أبا القاسم يا رسول الله يا إمام الرحمة … ” فنتوجه إليه و نستشفع و نتوسل به و كذا بسائر المعصومين عليهم السلام و نقدمهم بين يدي حاجاتنا ليشفعوا لنا عند الله تعالى و في نهاية الأمر – و حسب بعض روايات هذا الدعاء – نطلب منهم أن يستنقذونا من ذنوبنا عند الله و .. و هذا في الواقع امتثالٌ للأمر الإلهي في قوله تعالى : ” يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله و ابتغوا إليه الوسيلة .. ” و تطبيقٌ لقوله جل و علا : ” و لو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله و استغفر لهم الرسول اوجدوا الله تواباً رحيماً ” ..

إذا تبين ذلك تبين أن ما نُسب إلى الفاضل المذكور حفظه الله تعالى فيما يخص دعاء التوسل ( مع انه لا ينفي صحة المضمون و إنما يرى عدم صحة بعض الشكليات كتسميته بالدعاء كما سنشير ) غير وارد ؛ فالمنقول في الرابط الذي أرسل لي هو التأكيد على ثلاث نقاط – و يرجع مجموعها إلى نقطتين – و الاستنتاج بأن ذلك قد فتح الباب على اتهام الشيعة بالشرك ( و لا يخفى أن من يتهم شيعة أمير المؤمنين عليه السلام بالشرك يتشبث بكل حشيش لكيل التهم عليهم و ليس السبب في ذلك هو هذا الدعاء أو ذاك التوسل و إنما يتذرعون بذا أو ذاك ) .. و النقاط التي يشير إليها هي ما يلي :

١ – لا يصح تسمية هذا التوسل بالدعاء فإن الدعاء خاص بالله تعالى ..

٢ – إن هذا التوسل المسمى بالدعاء ليس مأثوراً عن الأئمة عليهم السلام و وجود أسماء الأئمة عليهم السلام واحداً تلو الآخر أوضح دليل على ذلك و على كونه من المخترعات ..

٣ – المشهور أنه من مخترعات الخواجة ( المحقق ) الطوسي قدس سره الشريف و هو – أي كونه من مخترعاته رضوان الله تعالى عليه – أيضا غير ثابت ..

ثم يستنتج بأنه يلزم ان لا نعتبره من المأثورات و أن لا نسميه دعاءً فإن الدعاء لا يكون إلا بالتوجه إلى الله جل جلاله فما يُقرأ فهو توسل بالمعصومين عليهم السلام ..

فنقول أولاً أنه حفظه الله تعالى – حسب هذا النقل – لم ينفِ صحة قراءة هذا التوسل و إنما استشكل في تسميته بالدعاء و قد تبين عدم ورود هذا الإشكال حيث أن هذا الدعاء دعاءٌ و طلب من الله تعالى أن يعفو عنا و يقضي حوائجنا إلا أننا نطلب منه ذلك بطريق غير مباشر و بلسان أوليائه الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين بمعنى أننا نطلب منهم عليهم السلام أن يشفعوا لنا عند الله و يدعوا الله تعالى ليغفر لنا ذنوبنا و يقضي حوائجنا ، فهو و كما أشرنا إليه دعاء بالتوسل بالأولياء ، فلا مشكلة في تسميته بالدعاء ..

و ثانياً : إن ما ورد في نقده من أنه ليست من المأثورات عن المعصومين عليهم السلام ، لا يُعَدُّ إشكالا على هذا الدعاء فإنه لا يشترط في صحة السؤال و الطلب من الله تعالى و في صحة قراءة دعاء ما أن يكون مأثوراً عن المعصومين عليهم السلام ، فها نحن ندعوا الله في كثير من الأوقات بما يخطر ببالنا و يتبادر إلى أذهاننا و بألفاظ مخترعة لنا ، فمن المعلوم و المبيَّن في محله أنه يكفي أن يكون مضمون الدعاء صحيحا و غيرَ مُنافٍ للمعتقدات و أحكام الشريعة المقدسة ليكون مشمولا لاطلاق قوله تعالى : ” ادعوني أستجب لكم ” ، نعم المأثور عنهم عليهم السلام دقيقٌ من حيث آداب الدعاء عالي المضامين و مشتملٌ على معارف عظيمة و .. إلا ان ذلك لا ينفي صحة الدعاء بغير المأثور عنهم صلوات الله عليهم أجمعين ..

هذا مضافا إلى أن دعاء التوسل و إن لم يُذكر له سند إلا أنه منسوب إلى الأئمة عليهم السلام فقد قال العلامة المجلسي رضوان الله تعالى عليه في البحار ج ٩٩ ص ٢٤٧ : أقول : وجدت في نسخة قديمة من مؤلفات بعض أصحابنا رضي الله عنهم ما هذا لفظه : هذا الدعاء رواه محمد بن بابويه رحمه الله عن الأئمة عليهم السلام و قال : ما دعوت في أمر إلا رأيت سرعة الإجابة و هو : اللهم إني أسألك و أتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة .. فليس هذا الدعاء من مخترعات المحقق الطوسي ( مع انه و كما أشرنا لا ضير في كون دعاء ما مع صحة مضامينه مُخْتَرَعاً ) .. و أما ما استند إليه لإثبات كونه من المخترعات ، فهو بحد ذاته أمر عجيب فذِكْرُ أسماء الأئمة في دعاءٍ أو توسلٍ أو استغاثةٍ لا يدل أبداً على كونه مُخْتَرَعاً حيث أنه لا ملازمة بين هذين الأمرين كيف و قد وردت أسماؤهم عليهم السلام في بعض الأدعية المأثورة إما تفصيلا أو إجمالا ، كما وردت أسماء الخمسة الطيبة الطاهرة أصحاب الكساء في مأثورات أخرى ؟ .. فأية ملازمة بين ذكر اسماء الأئمة عليهم السلام واحداً تلو الآخر و بين كون الدعاء من المخترعات .. ؟

و دمتم موفقين مسددين ..
و لا تنسونا من صالح أدعيتكم الخالصة ..

أيوب الجعفري

ليلة السبت ١٤ (١٥) شوال ١٤٤١ ق
الموافق ٦ / ٦ / ٢٠٢٠ م

https://telegram.me/ayoobaljafary